15/10/2022 - 23:39

حوار مع د. أحمد أمارة | الاستيطان في قلب أحياء القدس

التواطؤ واضح بين "القيم العام" والجمعيات الاستيطانية، حيث كان يبادر الأول في بعض الحالات بنفسه لنقل العقارات لهذه الجمعيات التي تسارع بدورها للحصول على أوامر إخلاء للفلسطينيين من المحاكم، والتي لم "تقصر" بدورها في استصدار هذه الأوامر.

حوار مع د. أحمد أمارة | الاستيطان في قلب أحياء القدس

(Gettyimages)

"الاستيطان في أحياء القدس" كتاب جديد صدر مؤخرا عن مركز مدار- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية للباحث د. أحمد أمارة، إذ يتناول العمليات الإسرائيلية الاستيطانية الجارية في سلوان والشّيخ جرّاح والبلدة القديمة وفي أحياء أخرى من القدس، بوصفها نمطا استيطانيا خاصا يختلف عن الاستيطان الإسرائيلي الكلاسيكي ويتميّز عنه على المستوى العملي، كما يقول الباحث، حيث تعمل جمعيات استيطانية على فرض واقع استيطانيّ جديد له مميزات خاصة، وتستند إلى ادعاءات وحجج دينية وتّاريخية مختلفة.

يحلّل الكتاب، اعتمادا على مصادر أرشيفية عثمانية وإسرائيلية وأردنية وغيرها، ازدياد نفوذ الجمعيات الاستيطانية المالي والسياسي، وبالتالي نشاطها الاستيطانيّ، في ظل عوامل سياسية واجتماعية وقانونية وتاريخية مختلفة، أهمها هيمنة اليمين الإسرائيلي على المشهد السّياسي الإسرائيلي منذ نهاية السبعينيات، ومؤخرا هيمنة "الصهيونية الدينية" التي تدعم بشكل كبير تلك الجمعيات المنتمية بغالبيتها إلى هذا التيار الصهيوني-الدّيني، إلى جانب سياقات سياسية وقانونية واسعة ودولية أتاحت التوسع والمُصادرات وانتهاكات الحقوق الفلسطينية وضم مناطق واسعة فعليّا إليها دون أي معيقات أو مسائلة دولية جديّة.

ويجري الاستيطان في قلب الأحياء الفلسطينية للقدس بموازاة الاستيطان التقليدي الذي تمارسه دولة الاحتلال في المدينة، منذ احتلال وضمّ شطرها الشرقي وإعادة توحيدها عام 1967، حيـث سارعت السلطات الإسرائيلية بمساعدة نظامها القانوني الجاهز إلى مصادرة أكثر من ثلث الأراضي الفلسـطينية، بعد أن ضمت بشكل غير قانوني مساحات شاسعة شملت القـدس الشرقية المعرفة أردنيًا، بالإضافة إلى 28 حيا وقرية مجاورة، التي أصبحت تعرف اليوم جميعها بشرق القدس، أو القدس الشرقية.

منظر عام في القدس المحتلة (Gettyimages)

وقد وصلت الأراضي المصادرة في شرق القدس إلى حوالي 23 ألف دونم بما نسبته 38%، أقيم على هذه الأراضي 13 حيا استيطانيا يسكنها 230 ألف مستوطن، حيث يستهدف تهويد الحيز المقدسي وفرض واقع سياسي وجغرافي وقانوني جديد يمنع تقسيم المدينة في أي تسوية سياسية محتملة.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" الباحث د. أحمد أمارة لإلقاء مزيد من الضوء على موضوعات الكتاب.

"عرب 48": من الاستيطان الكلاسيكي وإلى جانبه نرى نمطا آخر من الاستيطان في قلب الأحياء الفلسطينية البلدة القديمة، وسلوان، والشيخ جراح وغيرها (تناولها الكتاب)، يقوم على إخلاء السكان الفلسطينيين من بيوتهم بالقوة واحتلالها من قبل مستوطنين متطرفين يتبعون لجمعيات استيطانية تعمل بتنسيق وتناغم مع المؤسسة السياسية وتحظى بشرعية المؤسسة القضائية للاحتلال..

أمارة: بعد أن أقاموا الطوق الاستيطاني حول القدس وصادروا 38% من أرضها، هي عبارة عن 24 ألف دونم وذلك بهدف عزل القدس عن العمق الجغرافي الفلسطيني وعن امتدادها الوطني، وبالتوازي مع الاستيطان الكلاسيكي المذكور ومنذ العام 1967 قاموا أيضا بهدم حي المغاربة وإعادة بناء ما يسمى بالحي اليهودي داخل البلدة القديمة.

إلا أنه، مؤخرا، ومنذ عقدين من الزمن تقريبا هناك ظاهرة يسمّونها "الاستيطان في القلوب"، وهي تقوم على "فلسفة" جرى استخلاصها بعد "سابقة" إخلاء مستوطنات إسرائيلية من سيناء ومن ثم مستوطنات قطاع غزة بعد فك الارتباط، ترى أنه لمنع إخلاء إضافي للمستوطنات يجب أن يحتل الاستيطان قلب كل يهودي ليتم الاعتراض الجماهيري على أي إخلاء مستقبلي، ومن ثم جرى تحويل الاستيطان إلى قلب المدن الساحلية، كاللد والرملة وعكا فيما تبقى القدس حالة أكثر استثنائية يراد للاستيطان في قلبها تحقيق أكثر من هدف.

د. أحمد أمارة

في القدس يتحدث الكتاب عن البلدة القديمة بما يشمل حي المغاربة والحي اليهودي، سلوان والشيخ جراح، كل حي له فصل خاص، ولكن أنا أنظر أيضا إلى كل موقع وكل بيت وكيف يتم الاستيلاء عليه بما يسمونه بحارة اليهود الجديدة من الواد إلى الخالدية، وهي منطقة سوق القطانين.

الكتاب يعالج أيضا المنظومات السياسية - القانونية التي يجري بواسطتها الاستيلاء على البيوت، هناك منهجية معينة، إما مصادرتها كأملاك غائبين، حيث يتم مصادرة الملك من قبل "القيم على أملاك الغائبين" وبعد ذلك تجد هذه البيوت طريقها إلى الحركات الاستيطانية مثل "عطيرت كوهنيم" و"إلعاد" وغيرها.

"عرب 48": هنا يبدو تقاسم الأدوار بين المؤسسة الرسمية للاحتلال وبين الجمعيات الاستيطانية التي يتم استخدامها كذراع ضارب للاحتلال..

أمارة: التعاون واضح لا لبس فيه، ولكن الميكانيزم الثاني العام والمهم هو كل ما يسمى أملاك اليهود أو حقوقهم العقارية قبل الـ48، فقانون الشؤون الإدارية والقانونية الإسرائيلي من سنة 1970 في القدس أعطى "القيم العام" صلاحية إدارة كل الأملاك التي كانت تابعة لليهود قبل الـ48 والتي كانت تخضع لإدارة "حارس أملاك العدو" الأردني، ومن ثم سمح لأي يهودي أو وريثه أو بديله، يدعي الملك في هذا العقار أن يطالب "القيم العام" بالحصول على الملك وأن يعطيه "القيم العام" هذا الملك.

وأصبحت الجمعيات الاستيطانية تستغل هذا المنفذ وتعمل على تحويل إدارة العقار من "القيم العام" إلى أيديها، فيذهب نشطائها إلى أصحاب حقوق الملكية اليهود أو ورثتهم ويشترون منهم هذه الحقوق وهم يتصرفون باسمهم، ثم يذهبوا إلى "القيم العام" ويطالبونه بتحرير الملك وهم يتدبرون أمرهم مع الفلسطينيين الذين يسكنون هذه البيوت من دعاوى إخلاء.

"عرب 48": هذا ما حصل في الشيخ جراح وسلوان..

أمارة: في الشيخ جراح هناك حالتين: كرم الجاعوني والحي الغربي بما يعرف بـ"كوبانية أم هارون"، في سلوان الأمر مختلف بعض الشيء حيث يجري الحديث عن عقار هو بالأساس "وقف يهودي" قديم، عينت الجمعيات الاستيطانية متولين لإدارة هذا الوقف وحصلوا كمتولين على "صك تحرير" للعقار من "القيم العام"، وبعدها رفعوا دعاوى إخلاء ضد الفلسطينيين.

وهم عادة ما يذهبون إلى المحكمة مع مخطط جاهز لبناء لتجمع استيطاني، بمعنى إضافة بضع بيوت للبيوت التي سيجري إخلاء أصحابها الفلسطينيين منها، أو هدم هذه البيوت وإقامة عمارات سكنية استيطانية مكانها والمحكمة تقر هذا المخطط وتحكم بإخلاء الفلسطينيين، وللتنويه لم يرفض القضاء الإسرائيلي على مدار 60 عاما دعوى إخلاء فلسطيني من بيته ولو بداعي التقادم وأنه يسكن هذا البيت منذ 60 عاما.

وفي كل حي هناك قضية مركزية كبيرة وهناك حالات فردية هنا وهناك أيضا، مثلا في البلدة القديمة عندنا حي المغاربة وإعادة بناء الحي اليهودي التي شملت مصادرات كبيرة، وعندنا الحالات الفردية التي تحصل حتى اليوم في الأحياء الإسلامية وباب حطة والحي اليهودي مع البطريركية وغيرها.

"عرب 48": ولكن المخططين الرئيسيين الكبيرين يجريان في سلوان والشيخ جراح، وربما الهدف هو الاطباق على البلدة القديمة من الشمال والجنوب..

أمارة: في سلوان لدينا موقعين واسعين للاستيطان، الأول هو وادي حلوة أو ما يسمونها بـ"عير دافيد" والتي جرى إعلانها منطقة أثرية وتولية جمعية "إلعاد" الاستيطانية على إدارتها والتهديد الذي تواجهه بيوت الفلسطينيين هناك.

مستوطنون في حي الشيخ جراح (Gettyimages)

الموقع الثاني الواقع في دائرة الاستهداف هو "بطن الهوى" والتي يدعون أنها وقف يهودي يسمونه "وقف بنبنستي" أو وقف اليمن منذ 1880 وبعدها، وهنا وهناك أيضا حالات متفرقة لشراء بيوت أو الاستيلاء على بيوت فلسطينية بطرق مختلفة.

في الشيخ جرّاح عندنا أيضا حالتين أساسيتين، علما أن المصادرة والاستيلاء على الأرض بدأت في الشيخ جراح مباشرة منذ 1967 بـ"مباني الحكومة" ومحاولات الاستيلاء على فندق "الامبسادور" وإقامة مركز الشرطة أو "قيادة حرس الحدود"، وبعدها جاء دور "كرم الجاعوني" المعروف ومن ثم الحي الغربي الذي يسمونه "كوبانية أم هارون" وكل من الموقعين له تاريخه وقضيته والاوجه القانونية والتاريخية الخاصة به من الفترة العثمانية.

في كرم الجاعوني قامت الحكومة الأردنية مع "الأونروا" ببناء البيوت وأبرمت عقود ايجار مع لاجئين فلسطينيين بعضهم هجر من أحياء أخرى في القدس الغربية، والادعاء أن الأرض كانت تابعة للجنة "الطائفة السفارادية" و" كنيس يسرائيل" وقد استولى عليها "القيم العام" بعد احتلال القدس الشرقية عام 1967، الذي قام بدوره بنقلها إلى لجنة "الطائفة السفراديم" ومن هناك لاقت طريقها إلى الجمعية الاستيطانية "نحلات شمعون"، وكل عملية الانتقال تعاني الكثير من الإشكاليات أتحدث عنها بالتفصيل في الكتاب.

أما "كوبانية أم هارون" فهناك عائلات فلسطينية استأجرت "الحكر" في أرض هي وقف إسلامي ذري وبنت عليها بيوتا حيث بيعت البيوت بدورها من إلى، وفي الـ48 انتقلت هذه البيوت لـ"حارس أملاك العدو" الأردني وسكنها فلسطينيون وبعد احتلال عام 1967 استولى عليها "القيم العام" الذي قام بدوره بنقلها إلى جمعيات استيطانية.

"عرب 48": من الواضح أنه في الحالتين هناك عملية إخلاء فلسطينيين وإحلال مستوطنين مكانهم بتواطؤ بين الجهات الرسمية وجمعيات المستوطنين والمحاكم الإسرائيلية أيضا..

أمارة: التواطؤ واضح بين "القيم العام" والجمعيات الاستيطانية، حيث كان يبادر الأول في بعض الحالات بنفسه لنقل العقارات لهذه الجمعيات التي تسارع بدورها للحصول على أوامر إخلاء للفلسطينيين من المحاكم، والتي لم "تقصر" بدورها في استصدار هذه الأوامر.

منظر عام في سلوان (Gettyimages)

كما أن المحاكم الإسرائيلية فسرت القانون العثماني والأردني بشكل يخدم مصالح إسرائيل الاستيطانية، فعلى سبيل المثال فإن الوقف كما هو معروف لا يباع ولا يشترى وعندما تكون الأرض وقفية يمكن البناء عليها ويصبح البناء منفصل وأرض "ملك" لكن الأرض تبقى وقف، إلا أن المحاكم الإسرائيلية تصرفت وكأن الأرض والبيت أصبحا ملكا يهوديا وحكمت على هذا الأساس.

كما أن الأملاك بقيت يهودية لأن "حارس أملاك العدو" الأردني لم يفعل ما فعله "القيم على أملاك الغائبين" الإسرائيلي، استنادا إلى قانون سنته إسرائيل بهذا الخصوص ينص على إقامة جسم وسيط يسمى "سلطة التطوير" وفي حال جرى تمرير الأملاك من "القيم على أملاك الغائبين" إلى "سلطة التطوير" انتهى أمرها، وحتى لو تبين لاحقا أنها ليست أملاك غائبين لا يمكن استردادها بل يجري تعويض أصحابها.

هذا إضافة إلى التعاون الفاضح بين "القيم على أملاك الغائبين" وبين الجمعيات الاستيطانية، حيث كشفت "لجنة كلوغمان" التي عينت في عهد حكومة رابين عام 1992 بهذا الخصوص أن أكثر من 70 عقارا جرى الاستيلاء عليها من قبل "القيم العام" استنادا إلى تصاريح جمعية "عطيرت كوهنيم" وغيرها من الجمعيات الاستيطانية بأنها أملاك غائبين وذلك دون فحص أو مراجعة وتدقيق لهذه المعلومات، بمعنى أنه بمجرد أن تذهب واحدة من هذه الجمعيات إلى "القيم على أملاك الغائبين" وتصرح أمامه أن العقار الفلاني هو أملاك غائبين يقوم القيم العام بالإعلان عنه كـ"أملاك غائبين".

وقد كانت في حينه توجيهات من شارون بوصفه وزيرا للإسكان بأن أي عقار يتم الاستيلاء عليه من قبل "القيم على أملاك الغائبين"، ينقل إلى الجمعيات الاستيطانية، والحديث يجري عن عشرات العقارات في البلدة القديمة وسلوان، وكانت أجسام كدائرة أراضي إسرائيل ووزارة الإسكان والقيم وغيرها جزءا من هذا التعاون.

"عرب 48": تريد أن تقول إن الجمعيات الاستيطانية كان ما عليها سوى انتقاء الموقع الذي يلائم حاجاتها الاستيطانية والإشارة إلى أي عقار والتصريح عنه بأنه أملاك غائبين، لكي يعلن "القيم العام" عنه بهذه السهولة كأملاك غائبين ويتم نقله إلى الجمعية الاستيطانية ذات العلاقة. ولكن ما هي الأهداف السياسية أو الحيوسياسية من الاستيلاء على هذه الأحياء والمناطق؟

أمارة: كانت الأجسام تبحث عن أملاك وتحضر أوراقها في ملف للتحضير لمصادرتها عن طريق القيم على أملاك الغائبين. عدا عن أيديولوجية الاستيطان وما يسمونه بإعادة "الحال إلى ما كان" و"إعادة المجد اليهودي في القدس" وعجلة التاريخ إلى الوراء، كما يعتقدون أو بناء تاريخ يهودي للمكان عبر محاولة تغيير الطابع الديمغرافي والتاريخي للمدينة المقدسة، فإن الهدف السياسي الذي أخذ يتبلور بعد أوسلو فهو منع تقسيم المدينة وذلك من خلال استهداف كل ما يسمى بالحوض المقدس الممتد من سلوان، جبل الزيتون، جبل صهيون، المصرارة الشيخ جراح ووادي الجوز وتشكيل طوق استيطاني حول البلدة القديمة.


د. أحمد أمارة: محاضر بجامعة نيويورك في تل أبيب وباحث في العيادة القانونية التابعة لجامعة القدس، وهو محام متخصص في المرافعة الدولية، يتمحور بحثه في التقاطع بين القانون والتاريخ والجغرافية مع التركيز على قانون الأراضي العثماني في جنوب فلسطين والقدس. نشر كتاب "الأراضي المفرغة- جغرافيا قانونية لحقوق البدو في النقب"، بالتعاون مع ألكساندر كيدار وأورن يفتحئيل، ويعمل حاليا على مشروع قطار سكة الحجاز.

التعليقات